أوروبا ولبنان والنازحون: تعميم "النموذج التونسي"؟!
منذ ١٤ يوم    موقع العهد الأخبارى
عندما رفعت تونس صوتها ضدّ تدفق الهجرة الإفريقية إلى أراضيها الصيف الماضي وقررت فتح الباب أمامهم إلى أوروبا، أصيب القادة الأوروبيون بنوبة فزع وطار ثلاثة منهم إلى تونس وهم رئيسا وزراء هولندا وإيطاليا ورئيسة المفوضية الأوروبية (الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي)، وقدّموا الوعود بقروض ومِنح إلى تونس بقيمة مليار يورو لاستيعاب المهاجرين الأفارقة على أرضها وتوفير فرص عمل موسمية للتونسيين في دول أوروبا. لكن الاتفاق الذي تم بهذا الخصوص شيء، والتنفيذ شيء آخر، إذ ما لبثت الوعود الأوروبية أن تقزّمت بعد شهور إلى 60 مليون يورو، رفضها الرئيس التونسي قيس سعيد باعتبارها صدَقة لا تتوافق مع روح مذكرة الاتفاق الذي تم بين الجانبين في تموز 2023.  وعندما رفع لبنان صوته للمطالبة بتوفير الظروف الملائمة لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، بما فيها رفع الحصار الاقتصادي عن سورية، ولوّح بإعادتهم إليها، هرعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين بمعيّة الرئيس القبرصي إلى بيروت، وقدّمت وعدًا بمساعدة مالية للبنان بقيمة مليار يورو على مدى أربع سنوات، وأيضًا مع وعد بفرص عمل موسمية للبنانيين في أوروبا! لكن هذا الوعد بقي مبهمًا في التفاصيل، ويبدو أن قسمًا وافرًا من المبلغ المذكور سيصبّ في دعم القوات المسلحة اللبنانية المولجة بمكافحة الهجرة إلى أوروبا، وبالتالي فهذا الشقّ يخدم أوروبا ولا يخدم لبنان، وقسمًا آخر يهدف لدعم النازحين السوريين (وهذا يثبّت النازحين حيث هم ويُبقي المشكلة على حالها)، وقسمًا ثالثًا لـ المجتمع المضيف. ويوضح ذلك أن هذا المبلغ لن يكون له أثر يُذكر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان مقارنة بالأعباء التي يتحملها من جراء النزوح، فضلًا عن أوضاعه المالية الصعبة.   قبل تونس ولبنان، استخدمت تركيا موضوع الهجرة إليها للضغط على قادة أوروبا من أجل التخفيف عن كاهلها في استقبال اللاجئين/ المهاجرين. وكان ردّ أوروبا بين وقت وآخر يتمثل بتقديم أموال إلى تركيا لاستيعاب المهاجرين على أراضيها أو ردّهم من حيث أتوا. وتمكّنت تركيا من الحصول على تسعة مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي منذ العام 2016 بفعل ضغطها المتواصل على الاتحاد عبر توجيه المهاجرين إلى أراضيه، لكن العراك لم ينتهِ بين أنقرة والدول الأوروبية بهذا الشأن، واحتاجت تركيا إلى جرعات تذكيرية بأعباء المهاجرين على أرضها من خلال توجيه قسم منهم عبر بحر إيجه إلى أوروبا.  العبرة المشتركة في هذه الحالات الثلاث:  - لا يسأل الاتحاد الأوروبي عن الدول الواقعة خارج أراضيه وأحوالها الصعبة إلا عند التلويح بفتح باب الهجرة عبرها نحو أوروبا.  - يعتقد المسؤولون الأوروبيون أن معالجة مسألة الهجرة تتم ببعض فُتات المساعدات التي لا تفي إلا بنزر يسير من أعباء المهاجرين واللاجئين.  - هناك بون شاسع بين الوعود وتنفيذها. ولتركيا وتونس ولبنان تجارب تؤكد هذا الأمر. والعبرة دائمًا في التنفيذ.   - تفضّل أوروبا معالجة بعض النتائج والأعراض على معالجة أسباب الهجرة، وتكمن الأسباب في السياسات الغربية تجاه دول العالم غير الأوروبي وفرض أوجه حصار على العديد منها واستغلال ثرواتها الخام وإهمال شؤونها التنموية.   ولم يسجل نموذج الدفع مقابل مكافحة الهجرة نجاحات كبرى بفعل قصور سياسات الاتحاد الأوروبي الذي يريد إلقاء الحمل بالكامل على عاتق الدول التي تستقبل المهاجرين كمحطة أولى ويطلَق عليها وصف دول العبور، في مقابل وعود وبعض المساعدات الطارئة. لقد بذلت هذه الدول جهودًا جبارة لضبط قوارب المهاجرين، على أمل ان يحظى ذلك بالتقدير والمساندة من التكتل الأوروبي، غير أن هذه الإجراءات أدت فقط إلى تفاقم أوضاعها بسبب ضغوط المهاجرين على بُنيتها التحتية والاجتماعية، ونجمت عنها توترات خطيرة في بعض الحالات بين السكان المحليين والمهاجرين/ النازحين، وهذا ما شهدته تركيا وتونس ولبنان.  ويكمن جزء أساسي من المشكلة القائمة في لبنان مثلًا في الحصار الاقتصادي المفروض على سورية، مما يضعف إمكانات الدولة السورية في توفير احتياجات السكان ويقلل من حافزية النازحين السوريين للعودة إلى بلدهم. كما أن الاتحاد الأوروبي متَّهم بممارسة ضغوط لتشريع حقوق للنازحين السوريين في لبنان أقرب إلى حقوق المواطنين اللبنانيين، بما قد يؤدي إلى عزوف غالبيتهم عن العودة إلى وطنهم لسبب أو لآخر، خاصة مع انفصال الجيل الجديد من النازحين السوريين عن الارتباط بوطنهم وتأسيس الكثير من جيل الشباب والعمال مصالح وأعمالًا ثابتة أو شبه ثابتة (فتح محلات تجارية) على الأراضي اللبنانية. ويريد لبنان ودول المنطقة التي تستقبل الملايين من النازحين السوريين سياسات جديدة من قبل الغرب تقوم على إلغاء العقوبات عن سورية التي تضرّ بالشعب السوري أولًا وتسهم في دفع الكثير من أبنائه للهجرة، وهذا لبّ المشكلة. ومن شأن رفع الحصار أن يساعد في إنعاش الوضع الاقتصادي لسورية وتشجيع أبنائها على العودة التدريجية إليها. ويمكن أن يتم ذلك بمعزل عن الموقف السياسي من النظام في سورية، خاصة أن الخلط بين الاقتصاد والسياسة هو نوع من العقوبات الجماعية أدى إلى تدهور أوضاع العديد من دول العالم (سورية، اليمن، إيران، كوبا، فنزويلا، والقائمة تطول)، وساهم في إفقار دول كانت تمضي على طريق النمو.   تريد البلدان التي تستقبل النازحين والمهاجرين علاقات متكافئة مع أوروبا واحترامًا متبادلًا وشراكة حقيقية في المسؤوليات وليس إجراءات عابرة ومسكّنات وصدقات، وبعضهم يزيد: رشاوى. وإضافة إلى السياسات الجائرة التي تتبعها الولايات المتحدة وأوروبا في التعامل مع مشاكل المنطقة، تحاول دول أوروبا القريبة إلى المنطقة العربية إقامة جدران صدّ للمهاجرين إليها تقوم على مبدأ الحفاظ على رفاهية الأوروبيين وإبقائهم خلف قلعة محصنة من الخروقات القادمة من الدول الفقيرة. ويلقي التعامل الأوروبي مع هذه المسألة الضوء على العقلية المغلقة والأنانية المدمِّرة التي تدير بها علاقاتها مع الدول المجاورة في القضايا التي تهمّ الجانبين، الأمر الذي لا يسهم بتاتًا في توفير حلول عاجلة، بل يزيد الأمور سوءًا خاصة في دول العبور.