فوضى الحواس وافتقاد الخيال
منذ ١٤ يوم    الإتحاد
لا أحد يستطيع مواجهة الدفق المعلوماتي، أو أن يصد ثورة تكنولوجيا المعلومات التي تعصف بالعالم، بل وتواصل عاصفتها، حيث صار الفضاء الإلكتروني متغلغلاً في كل تفاصيل حياتنا.لكننا جراء ذلك فقدنا القدرةَ على الخيال والتخيل، وهو موهبة إنسانية لا يملكها من المخلوقات إلا الصنف البشري وحده، ورغم ذلك فقد باتت في مهب الانقراض.في زمن ما قبل الإنترنت والعالم الافتراضي الموازي، كنا نقرأ الكتبَ المطبوعة، وتحديداً الروايات، لنتخيل الأماكن والأحداث والشخوص ونفتح نوافذ الرؤية الافتراضية على العالم كله من خلال هذا الخيال. واليوم صارت الرؤية متاحة من دون سفر، لا في كلمة بحث على الإنترنت وحسب، بل في جولة افتراضية واقعية يقدمها لنا العلم والتكنولوجيا عبر نظارات عالية التقنية تجعلك تتجول في الأمازون، وأنت على مقعد في بيتك.كنا تحت وطأة الاشتياق ننتظر رسالةً بريدية من الأحبة، أو ربما مكالمة على هاتف أرضي مشروط استكمال التواصل فيه أن يكون المرء بجانبه ليرد على المكالمة.كان البال خالياً من زحمة المعلومات وضجيجها، وكان البحث عن المعلومة يتطلب جهداً، وفي بعض الأحيان يستدعي مشقةً، لكنها مشقة تبعث الشعور باللذة.واليوم، لا مشقة ولا جهد إلا جهد حركة الأصابع، وهي تمسح شاشة بحجم كف اليد لتتلقى زخمَ معلوماتٍ هائل، فيه الصحيح وفيه المزيف، فيه الصادق وفيه المضلل.. ويكفي أن تضع كلمة واحدة – أي كلمة- على محرك البحث لترى مئات آلاف النتائج الواردة في ثانية واحدة.أنا من زمن جيل كان فيه هدف لمارادونا في شباك المنتخب الإنجليزي عام 1986 كافياً لتعبئة مساحة سهرة كاملة من الجدل اللطيف حول ذلك الهدف، هل كان نظيفاً أم لا..؟ كان الخيال نشطاً، وكانت الحماسة كافية لتشحن إنسانيتنا بالتشويق.أما اليوم، فإن تقنيات تكنولوجيا المعلومات قادرة على التقاط بصري مذهل يحدد حجم لمس خيط جوارب اللاعب للكرة في ضربة مرمى.. فقدنا التشويق والخيالات المجنحة حول الافتراضات المختلفة لصالح الحسم الذي تبلدت فيه أحاسيسنا.لا أنكر أن التكنولوجيا قامت بتسهيل الحياة إلى أقصى حد، وأن حجز رحلة سفر بالطائرة صار عمليةً سهلةً عبر هاتف محمول تختار فيه مقعدك على الطائرة، بل ووجبتك وكامل تفاصيل رحلتك.. لكن عملية «قطع التذكرة» في الماضي كانت لها لذتها وأنت تفاوض وتفاضل مكتب الحجوزات حول الرحلة الأنسب، وقد تترك لحظك اختيار المقعد الذي ستجلس عليه في الطائرة.لستُ ضد التكنولوجيا، فأنا أتنعم بها الآن وأنا أكتب مقالي، لكني قبل أيام، وبعد انقطاع طويل استمر لسنوات، حاولتُ من جديد كتابة مقال بخط اليد، فصعقت لرداءة خط اليد التي أملكها، واستعصاء يدي على الكتابة كما أريد.كان للفاكس، وهو تقنية متقدمة في ذاكرة جيلي، دهشة عظيمة وهو يرسل بصوت الأزيز المعروف لديه إلى الطرف الآخر مقالي أيام زمان.أحياناً، أفكر باستعادة شيء من الماضي عبر إرسال رسائل بريدية (البريد لا يزال موجوداً لحسن الحظ)، وأدمغها بالطابع، وأرسلها وأنتظر الرد. وكان انتظار البريد حالة شوق إنسانية، تم قتلها بخدمة الإيميل الباردة. *كاتب أردني مقيم في بلجيكا