المعاتبة والصفح
منذ ١٤ يوم    الإتحاد
ترجُّ حشاشتي كثرةُ العتاب وتجرّني لا محالة للتأسف والندم. وكنتُ كلما هبطتْ عزيمة الروح، أفلقُ كلمة اليأسِ وأنثرُ رمادها في النار. وكلما توارى صديقٌ أو حبيب تحت ستر النسيان، أعودُ لأوقد بهجة الذكريات فيه وأستدعيه جسداً وروحاً وجبلاً من المشاعر والأمنيات السعيدة. هكذا ينبغي أن ندرب الخواطر على استثارة ما يُشعل نبض الجمال فينا. وهكذا ينبغي أن نهدم ونهزم الأفعال والكلمات التي يتسرّبُ وخزها إلى تألق القلب فيثبط روعة النبض فيه، ومن بينها وأولها وخزات العتاب.أعرفُ رجلاً ظل دهراً يعاتبُ نفسه حتى تآكل واختفى. وأعرف امرأة كانت ترمي كلمات العتاب على أطفالها وحين كبروا أصبحوا مدمني عزلة وجلّاس زوايا الفراغ. وفي زمانٍ ما، انتبه رجلٌ حكيمُ إلى قسوة العتب فراح يشطبُ دلالاته وكلماته من قاموس لغة من حوله، وسرعان ما حلّت مفاهيم الغفران غير المشروط مكان تلك الكلمات، وبث الكونُ في نفوسهم رغبة المصافحة والعناق الأبدي.أعرف زوجين قررا أن يعدما كل أشكال العتاب في علاقتهما، وها هما اليوم يرتفعان شمساً وقمراً في سماء وجودهما فيما البقيةُ يقضون أعمارهم عابرين بين خصام وخصام. ما بين العتاب والمسامحة شعرة رقيقة جداً من الوعي بلحظة وجودنا، هذه اللحظة التي لا ينبغي مطلقاً أن نهدرها خارج منطقة الفرح بالحياة، ولذلك فإن كل تراجع أو توقف لمعاتبة الآخر هو انحدار نحو الجهل، وكل ارتفاع في القدرة على مسامحة الآخر، هو ارتقاء إلى الصفو العالي الذي يجعل النفس حرةً وشفافة ولا يعكّر احتفالها بالحياة أي شيء.الوصول إلى هذه الدرجة من السمو على الصغائر، لن يكون سهلاً على الإطلاق، إذ ينبغي أن تنبع الرغبة أولاً من العقل، وتحديداً من منطقة الوعي بأثر الكلمة علينا وعلى الآخرين. ثم علينا أن ندرّب هذا الوعي على البقاء في لحظة اليقظة والانتباه. وكما فعل الرجل الحكيم، علينا أيضاً أن نحذف كل كلمات المعاتبة وأن نستبدلها بالصمت أو بتجاوزها على الفور إلى نقيضها. وما نقيض العتاب إلا المزيد من الحب.أن تذهب إلى الآخر بقلب صافٍ، معناه أنك تمنحه القدرة ليندمج في روحك ويصير لطفاً وجوهراً أصيلاً لأنك تستدعي جمال روحه وروعة ما فيه. وإن يأتيك الآخر بروحٍ واعية، فإن ذلك قدرٌ عليك أن تفنى لتذوب فيه.