إسرائيل.. والانقسامات الداخلية
منذ ١٤ يوم    الإتحاد
تعمل الميديا الإسرائيلية على التأكيد من واقع استطلاعات الرأي المتكررة التي تقوم بها - ولا تحتكم فيها للقواعد المهنية المتعارف عليها في إجراء الاستبيانات – أن المجتمع الإسرائيلي انقسم بالفعل أمام ما يجري من وقائع تتعلق بالحرب الدائرة في قطاع غزة، والدعوة للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، في إشارة إلى أن الحكومة الراهنة ما تزال تواجه خيارات صعبة حقيقية، وأنه لابد من الذهاب إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة لمواجهة ما يجري من حالة انقسام حقيقي، وحسم الأمر. والواقع أن أسر وعائلات المحتجزين نجحوا بمهارة في إدارة المشهد، وتصعيده، إعلامياً وسياسياً، داخل إسرائيل، بل وفي الولايات المتحدة، ومن خلال إدارة حملة إعلامية مكثفة تعمل في اتجاهات عدة هدفها ليس الافراج عن المحتجزين، بل وأيضاً تغيير الحكومة بأكملها في إشارة لحالة التظاهرات الكبرى التي تشهدها إسرائيل أسبوعياً. والحقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بات يواجه مأزقاً بصرف النظر عما يجري من تطورات تمس استقرار الدولة بأكملها في ظل الحرب الدائرة، وما ستسفر عنه، وفي انتظار الخطوة المقبلة، والتي ستركز بالفعل على أولويات ترتيب الأجواء في الحكومة الراهنة، سواء بإعادة فك وتركيب ائتلافها أو الذهاب إلى حكومة وطنية، تضم كل الأضداد مرة أخرى، في إطار تجميع المجتمع الإسرائيلي تحت مظلة الوطن، وهو ما حاول الرئيس حاييم هرتسوج العمل عليه طوال الفترة الماضية من خلال الدعوة لإجراء الحوار الوطني، ما بين المؤيدين والمعارضين وفشل، وهو ما سيتكرر بالفعل في الفترة المقبلة. فالمجتمع الإسرائيلي لن يتحمل الاستمرار بهذه الصورة في ظل تهديدات الشرائح المجتمعية والنقابات والشركات الكبرى وعناصر المجتمع المدني بالقيام بفرض حالة الشلل الوطني، ما قد يؤدي إلى نتائج سلبية على وحدة وتماسك المجتمع، وقد يؤدي إلى مزيد من الانقسام. استقرار الداخل الإسرائيلي يحتاج إلى ضوابط حقيقية وخطوات، وليست مجرد تغيير حكومة ستأتي باليمين مرة أخرى، ما يؤكد على عدم وجود تغيير متوقع من حيث السياسات العامة، داخلياً أو خارجياً، وإنما أيضاً سيمس ما يجري من تطورات في الداخل تحتاج إلى مراجعات وتقييمات حقيقية للخروج من الحالة الراهنة، والتي ستستمر لبعض الوقت، خاصة أن الدولة والمجتمع معاً بحاجة لتغيير هيكلي، سواء في إعادة ترتيب الأولويات، أو حسم الخيارات، وإعادة بناء الداخل المهلل، وفي ظل واقع سياسي واستراتيجي جديد ومختلف، ويحتاج إلى سياسات حقيقية، وليس فقط مجرد مواقف أو اتجاهات من أي نوع أو توجه، وفي ظل خيارات صعبة تواجه المجتمع الإسرائيلي بأكمله. الرهان على استمرار هذا الوضع – كما يتصور رئيس الوزراء الإسرائيلي – لن يحدث بل قد يتزايد الأمر الذي قد يؤدي إلى حالة من الانكسارات المتكررة، والتي قد تذهب بالاستقرار في إسرائيل إلى سيناريوهات صفرية، ما يؤكد الحاجة لعقد اجتماعي وسياسي جديد، كما تحتاج إلى بناء مناعة وطنية حقيقية لإعادة تماسك المجتمع في مواجهة التحديات والمخاطر المستجدة، والتي ستتجاوز ما جرى من حركة «حماس» إلى المخاطر الأخرى، والتي ستفرض نفسها في المدى الطويل، وستمس بقاء الدولة في محيطها الإقليمي كدولة قوية تستطيع البقاء إلى 100 عام أخرى كما يتخوف أكاديميون كبار في بيوت الخبرة، ومراكز البحوث الإسرائيلية، والتي ترى أن إسرائيل ليست في حاجة إلى ترميم الداخل فقط، بل في حاجة إلى إعادة بناء علاقاتها الإقليمية والعربية، بعد أن مست حرب غزة جوهر هذه العلاقات بالفعل، وتتطلب مراجعات جديدة يجب العمل عليها في إطار تصويب مسار الدولة بصرف النظر عن اتباع خيارات أمنية واستراتيجية في الداخل، وتجاه جبهتي الشمال والجنوب، وهو أمر طبيعي سيحدث في إطار المستجدات الطارئة، والتي تؤكد أن إسرائيل دولة وجدت لتبقى في محيط عدائي بصرف النظر عما جرى من توافقات، أو الانخراط في معاهدات سلام أو تسوية. المواجهات الراهنة في قطاع غزة كشفت الحاجة لإعادة النظر لمشروع السلام الإقليمي، والتعاون الاستراتيجي مع الشركاء، والوجود الإسرائيلي الكبير في الاقليم من خلال استرداد المكانة والقدرات كدولة سوبر تحتل مكانة مهمة في التقارير الاستراتيجية الدولية، وهو الأمر الذي يجب أن يستمر، وتعمل إسرائيل على الحفاظ عليه، وليس فقط إحداث نوع من الاستقرار في الحكومة وشرائح المجتمع. الحراك السياسي والاجتماعي أمر طبيعي وموجود في إسرائيل قبل الحرب في غزة، ما يتطلب إعادة ترتيب الحسابات الإسرائيلية بالفعل، والتركيز على تطوير القدرات الداخلية كأولوية لها السبق على أي خيرات أخرى مع العمل على إعادة صهر المجتمع الإسرائيلي في بوتقة واحدة، وهو أمر سيحتاج إلى نخب سياسية جديدة في المستويات العسكرية والسياسية مع إعادة بناء الشراكات مع الخارج خاصة مع الحليف الأميركي ودول الاتحاد الأوروبي، وكذلك الحاجة لخطوات تدريجية وحلول ابتداعية، مكررة، ما يضع المجتمع الإسرائيلي أمام واقع جديد، وبناء الدولة اجتماعياً على قاعدة توافقية كي لا تكون إسرائيل دولة وشعبين، هذا هو المطروح في دوائر صنع القرار غير المرئية، والتي تمثل مراكز القوى في المجتمع الإسرائيلي بالفعل، والتي تخطط من أجل إعادة الدولة لموقعها الاستراتيجي والسياسي في الإقليم. *أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.