ايمانوال طود (Emmanuel Todd) الابن العاق: الفكر الغربي ونهاية الغرب
منذ شهرين    الصحافة
عالم الانتروبولوجيا والعلوم الاجتماعية الفرنسي ايمانوال طود أحد اهم المفكرين والمثقفين في فرنسا.وتكمن اهميته في كونه كان يسبح خارج التيار ويدافع عن مواقف نقدية ضد الاجماع الغربي في عديد المسائل الفكرية والسياسية و الاقتصادية . وقد دفعت هذه المواقف العديد الى اعتباره الابن العاق للفكر الغربي باعتبار انه لقي تكوينه في اهم وارقى المعاهد والجامعات في فرنسا وانقلترا، لكنه ظل محافظا على مسافة كبيرة من الاجماع الغربي في اغلب القضايا.وبالتالي سطع نجمه منذ سبعينات القرن الماضي من خلال نقده الشديد للمواقف الغربية واجماع المفكرين في الدفاع عن كينونة وأسس الفكر الغربي ومواقف البلدان الغربية في القضايا الدولية. وكانت هذه المواقف وراء الكثير من النقد والرفض وحتى التهكم من هذا المفكر من قبل الانتليجنسيا الغربية .كما تكمن اهمية المفكر في تحاليله وثرائها . تراوحت كتاباته بين مختلف العلوم الاجتماعية والانسانية واعطانا صورة متباينة حول تطور المجتمعات الغربية وتناقضاتها.ولم تقف تحاليله على الجوانب الكيفية والنوعية بل شملت الجوانب الكمية ليكون من اول الباحثين في العلوم الاجتماعية في بداية السبعينات الذين اعتمدوا هذه المنهجية.وقد جلب هذا الثراء الفكري والتنوع المنهجي والمراوحة بين مختلف ميادين العلوم الاجتماعية لاعمال ايمانوال الكثير من الاهتمام بالرغم من النقد الذي حضيت به كتبه ودراساته . كما تكمن مكانه هذا المثقف وقيمة الاهتمام الذي حظي به في قدرته على التنبؤ بتطورات المجتمعات ومساراتها التاريخية.فقد اصدر سنة 1976 كتابا اسماه «la chute finale» او «السقوط النهائي» عن دار نشر laffont خصصه للاتحاد السوفياتي وتنبأ فيه بنهايته بالرغم من تأكيد كل مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية في تلك الفترة على صلابة المعسكر الاشتراكي وتماسكه.إلا ان سقوط جدار برلين سنة 1989 ونهاية الاتحاد السوفياتي جاءت لتثبت وتؤكد القراءات الاستشرافية لهذا المثقف مما اعطاه مزيدا من المصداقية والتأثير . وفي هذا المجال اصدر كتابا جديدا سنة 2002 تحت عنوان «Apres l’empie :Essai sur la décomposition du système américain» او ما بعد الامبراطورية : محاولة عن تفكك النظام الامريكي» عن دار نشر قاليمار.وقد تنبأ في هذا الكتاب بتراجع ونهاية النظام الامريكي على المستوى والاقتصادي والاجتماعي.وقد اكدت التطورات الاقتصادية والسياسية العالمية صحة هذه القراءات والتنبؤات مع تراجع الهيمنة الامريكية وصعود قوى عالمية جديدة كالصين والهند وغيرهما من البلدان الصاعدة . ويمكن ان نضيف الى هذه العناصر التي تثبت اهمية وتأثير ايمانوال طود الحيز الكبير الذي الذي أخذته افكاره في الحوار العام في فرنسا.فقد اعد على سبيل المثال دراسة سنة 1995 لصالح مركز التفكير المعروف سان سيمون في فرنسا تحت عنوان «la fracture sociale» او «الفجوة الاجتماعية «حيث اكد على خطورة الشرخ الاجتماعي الذي يشق فرنسا بين القوى الاجتماعية وبصفة خاصة بين الاثرياء الجدد اللذين ظهروا مع تطور المضاربة في الاسواق المالية وجموع المهمشين.وكان لهذه الفكرة تأثير كبير في النقاش العام ليتبناها جاك شيراك المرشح انذاك للانتخابات الرئاسية في فرنسا والذي جعل منها شعار حملته الانتخابية.وقد تمكن جاك شيراك من الفوز بالانتخابات الرئاسية امام مرشح اليمين الاخر اداور بالادير الذي اعبتره الكثيرون مرشح قوى المال . اذن، ورغم النقد الكبير الذي لقيه واعتبار الكثيرين له الابن العاق او المزعج للنخبة الغربية من اليسار كما هو الشأن من اليمين الا انه تمتع بصيت كبير وتأثير مهم في المجال العام في فرنسا وعديد البلدان الاوروبية الاخرى .ولهذا الاسباب لم يمر كتابه الجديد الصادر منذ ايام عن دار النشر الباريسية المشهورة قاليمار بعنوان «la défaite de l’occident» او «هزيمة الغرب» مرور الكرام. فقد اثار هذا الكتاب الكثير من التعاليق والنقد خاصة وان فرضية هذا السقوط للغرب اتت من احد مثقفيه المرموقين. كما اكتسى هذا الكتاب اهمية خاصة باعتبار تزامن صدوره مع حدثين هامين .الاول يعود الى ثورة الجنوب ضد المنظومة الغربية والنظام العالمي الموروث من الحرب العالمية الثانية والتي انطلقت اثر بداية الهجوم الروسي على اوكرانيا ورفض اغلب بلدان الجنوب الوقوف الى جانب البلدان الغربية لإدانة روسيا .وتحول هذا الموقف السياسية الى ثورة بلدان الجنوب المعولم ومطالبتها بإدخال اصلاحات حقيقية وجذرية على النظام العالمي .وقد اعتبر الكثيرون هذا التمرد من بلدان الجنوب بداية النهاية لهيمنة الغر ب على النظام العالمي . اما الحدث الثاني الذي فتح مجال التحليل حول الهزيمة الاخلاقية للغرب فيهم الحرب المدمرة على غزة والتي لقيت كل الدعم والمساندة من قبل البلدان الغربية،اذ ورغم الاثار المدمرة لهذا العدوان وآلاف الشهداء الا ان البلدان الغربية لم تدع «اسرائيل» الى إيقاف عدوانها بل على العكس دعمت موقفها لمواصلة الحرب تحت ذريعة حقها في الدفاع على نفسها. وقد لقيت مواقف البلدان الغربية الكثير من الرفض لا فقط من بلدان الجنوب كذلك من شعوبها وحركاتها المدنية التي طالبت منذ اليوم الاول بإيقاف العدوان. من الناحية السياسية اعتبر الكثيرون ان دعم الغرب لإسرائيل مواصلة لسياسة المكيالين التي قام عليها النظام العالمي منذ بداياتها .اما من الناحية الاخلاقية اشارت عديد التحاليل والقراءات الى ان دعم الغرب لهذه الحرب هزيمة مدوية وسقوط للمبادئ الحقوقية التي دافع عنها الغرب منذ ثورة الانوار. يأتي كتاب ايمانوال طود في فترة تميزت بتصاعد النقد للمنظومة الغربية ولتمرد كبير ضد مبادئها الفلسفية والأخلاقية والسياسية الكونية والنظام العالم الذي بنته اثر نهاية الحرب العالمية الثانية . ولئن أكد المفكر على نهاية وهزيمة الغرب في كتابه الجديد الا انه سعى الى فهم وقراءة اسبابها العميقة .وفي هذا الاطار يؤكد الكاتب على فرضية اسياسية وهي ان هذه الهزيمة نتاج لنهاية وسقوط الدولة الوطنية كاطار للنظام السياسي والنمط الاقتصادي والعقد الاجتماعي . في عناصر بناء الدولة الوطنية يحدد ايمناول طود وجود الدولة الوطنية بجملة من العناصر الثقافية والسياسية والاقتصادية والجغرافية.وأول هذه العناصر انتماء مختلف الشرائح الاجتماعية في منطقة او حدود جغرافية معينة الى ارث ثقافي مشترك كما يؤكد على الانتماء الى نظام سياسي معين يمكن ان يكون ديمقراطيا او استبداديا او تيوقراطيا، والى جانب الوحدة الثقافية والنظام السياسي المشترك يضيف الكاتب المسألة الاقتصادية من خلال التأكيد على ان الدولة الوطنية تشترط وجود حد ادنى من الاستقلالية الاقتصادية والتي لا تنفي التجارة الخارجية والالتجاء الى البلدان الاخرى لتوفير بعض الاحتياجات الداخلية وهذه المسألة اساسية في راي الكاتب وفقدان التوازن الخارجي بصفة هيكلية مؤشر على فقدان مقوم هام من مقومات الدولة الوطنية كما هو الشأن اليوم لعديد البلدان الغربية مثل الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وبريطانيا. كما يؤكد الكاتب على اهمية التركيبة الاجتماعية للدولة الوطنية والتي تنصهر في حدود جغرافية معينة.وفي اطار الشرائح الاجتماعية المكونة للدولة الوطنية يؤكد الكاتب على دور البرجوازية الصغيرة في الديناميكية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها الدول الوطنية عبر التاريخ . ورغم اهمية هذه القراءة وخاصة العناصر التي قدمها الكاتب لتحديد العناصر المكونة للدولة الوطنية الا ان هذا المفهوم تجاوزه التاريخ بصفة خاصة منذ ثمانينات القرن الماضي مع التطور الكبير للعولمة وحركة التجارة العالمية ودورة راس المال . وقد عرف مفهوم الدولة الوطنية تراجعا كبيرا لتصبح التكتلات الكبرى اساس العلاقات الدولية والنظام العالمي .ولئن تراجع الغرب الذي تشكل في اطار الدولة الوطنية الا انه نجح في اعادة انتاج نفسه وسيطرته وهيمنته على العالم من خلال تكتلات كبرى كمجموعة السبعة الكبار .ولا تكمن اهمية هذا الكتاب في تأكيده على وصول الغرب الى سقوطه فقط بل كذلك في قراءته لأسباب هذا السقوط . في أسباب سقوط الغرب لفهم اسباب سقوط الغرب اشار ايمانوال طود الى اربعة مسائل اساسية .المسألة الاولى اقتصادية وتهم تراجع القدرة التنافسية لأغلب البلدان الغربية وبصفة خاصة الولايات المتحدة الامريكية والبلدان الاوروبية مع صعود بلدان وقوى اقتصادية جديدة من الجنوب في نفس الوقت ومن ضمنها الصين والهند والتي اصبحت تمثل منافسا جديا للغرب في الاقتصاد العالمي.ولعل ما يثير اهتمام الكاتب في هذا المجال هو ان التراجع الصناعي سينسحب على الصناعة العسكرية التي شكلت اداة الهيمنة الاساسية للغرب على الاقتصاد والعالم . أما المسالة الثانية التي تفسر هزيمة الغرب فهي دينية ثقافية وتعود الى تراجع الفكر البروتستاني الذي كان يثمن ويدافع عن قيمة الجهد والعمل .هذا التراجع فتح المجال لإرث ثقافي جديد يثمن مبادئ الربح السريع والجشع مما ساهم في تراجع الانتاج والابتكار ولعب دورا تاريخيا كبيرا في التطور التاريخي للرأسمالية . كما يشير الكاتب الى انحسار الطبقات الوسطى في المجتمعات الغربية والتي شكلت تاريخيا صمام امان لهذه المجتمعات ومكنتها من الابتعاد عن عدم المساواة.وقد نتج عن هذا التراجع انهيار التماسك الذي شكل اساس العقد الاجتماعي مما فتح الباب امام انشطار المجتمعات الغربية الى جمع كبير من المهمشين مقابل فئات وبرجوازيات قديمة وجديدة نسيت قيم التضامن وفتحت الباب واسعا لجشعها .وكانت هذه التطورات الاجتماعية وراء ازمة النظام الديمقراطي في اغلب البلدان الغربية . أما السبب الرابع وراء انهيار الغرب فيعود الى ثورة الجنوب ورفضه الاستكانة لعصا الطاعة للبلدان الغربية كما كان الشأن في السابق . ان كتاب ايمانوال طود عن «هزيمة الغرب» ينخرط في اطار حوار وجدل عالمي حول الازمات الهيكلية للغرب والتي وضعت هيمنته الثقافية والسياسية والاقتصادية موضع التساؤل وحتى الرفض .وقد زادت الازمات الاخيرة وبصفة خاصة حرب اوكرانيا والعدوان المدمر على غزة من حدة هذا النقد للغرب وللنظام العالمي الموروث من الحرب العالمية الثانية . وتتطلب هذه الازمات ومخزون السخط والاستياء الذي خلفته حوارا جديا لبناء عالم جديد يكون التنوع والعدل والاختلاف من ركائزه الاساسية .